رئيس التحرير
علاء الجمل

شاهيناز عباس تكتب:

حنين ويقين.. وتدرجات الارتقاء

في سكون الليل طوت حنين أوراقها وألوانها في خمول بعد أن أنجزت بعض إبداعاتها الفنية في تصميم مجلات ثقافية تحب أن تصممها بمفردها كهواية إبداعية رغم أن لا أحد يقرأها سوى أصدقاءها وأفراد أسرتها.

إلا انها تستمع بذلك فحتي غلاف المجلات تصممه وتلونه بنفسها.. أطلقت على المجلة اسم "عين الحياة" وكأنها نافذتها علي العالم من حولها.

"عين الحياة" مجلتها الخاصة بأفكارها الإبداعية تعرض خلالها أفضل المقالات والدراسات من وجهة نظرها والتي قرأتها خلال الأسبوع في كل الصحف والمجلات التي تحرص علي شراءها يوميا، كما أنها ترسم بعض الصور التعبيرية التي تضيف لمجلتها بعدا فنيا خاصا بها.. هذه طريقتها المفضلة في تمضية الوقت.. فما أجمل أن تكتسب المزيد والمزيد من المعلومات والأفكار الجديدة.

كانت دائما حنين توقن أن قيمة الإنسان بداخل نفسه وما يكتسبه من علم وأخلاق وبما يحاول أن يرتقي به في مجالات الحياة وبما يقاوم به كل ما يقلل من مكانته الدينية والأخلاقية، فالرتوش الخارجية التي يحاول أن يتجمل بها ما هي إلا محاولات غير مجدية ومتصنعة، فقاعة تتلاشي عند أول اختبار.

وعندما خاضت تجربة ترديد الآيات طوال اليوم كما نصحتها صديقتها التي فقدت أبويها في عام واحد فظلت تردد آية (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) طوال الوقت حتي استردت نفسيتها التوازن وقللت من الحالة السيئة التي كانت ستتردى إليها لولا الأذكار والآيات التي كانت لا تكف عن قولها حتي تهدأ.

ريشة.. لوجينا علاء 

جربت حنين ترديد آيه تستوقفها من خلال قراءتها للقرآن.. فيوما مثلا ظلت تردد آية ( ففهمناها سليمان) ومرة أخرى آية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) طوال اليوم فطغت هذه الآيات المباركات على سيء الأفكار والوساوس لديها فحدث التوازن النفسي والعقلي بفضل الله

أرهقت ذهنها فترة من الوقت الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية والغموض الذي يحيط بفهم النفس وطلاسم الذات ومواجهة الحياة بكل ما فيها من صور غامضة ملتبسة ومخاوفها من الموت فانهمكت بقراءة متأنية في كتب علم النفس والفلسفة.

من خلال قراءتها لبعض كتب الميثولوجيا والذي يعني علم دراسة الأساطير جذبتها شخصية إيكاروس في الأسطورة الإغريقية والذي أدى طموحه الزائد في النهاية إلى هلاكه فهو الشاب الذي حلق بجناحين من ريش وشمع وعندما حاول الاقتراب من الشمس ذاب الشمع وهلك إيكاروس ومات غرقا رغم تحذير والده المهندس المعماري ديدالوس الأثيني فقد كانا سجينين في المتاهة التي صنعها والده بنفسه بأمر من ملك كريت مينوس ليسجنهما داخلها بعد اكتشاف ملك كريت خيانة ديدالوس.

ورغم استحالة الفرار من هذه المتاهة إلا أن الأب المهندس الفذ استطاع أن يكتشف حيلة للفرار وهي تركيب جناحين لابنه للطيران فوق المتاهة ولكن حذره ألا يقترب من الشمس حتى لايهلك، وهذا ما حدث للابن في نهاية الأسطورة الخيالية، بالفعل وكثير من الآدباء نعتوا إيكاروس بالشخصية المفرطة في الطموح وآخرين نعتوه بالسذاجة والتهور وعدم التقدير الصحيح لعاقبة الأمور وكأن المتاهة هي الدنيا التي يجب أن نتخطاها بحكمة وروية وعدم اندفاع حتي لا نهلك مثل إيكاروس.

وأما "يقين" وهي صديقة "حنين" فكانت شخصية واقعية تبرع غالبا في صناعة بعض الأعمال اليدوية والتي تروجها من خلال صفحتها الخاصة، تجيد انتقاء الألوان والأشكال المتناغمة التي تجذب الأنظار كملابسها الشخصية التي تحب أن تكون فيها ألوان لافتة كالأحمر الصريح أو الورود الظاهرة عكس صديقتها حنين التي كانت لا تحب إلا الألوان الهادئة و المحايدة أو الحيادية.

لا تهوى يقين قراءة الكتب كثيرا مثل حنين ولكنها عندما وجدتها تقرأ كتاب "فقه اللغة" للثعالبي، والذي استعارته حنين من مكتبة والدها والذي يدرس بالمعني الحالي المتلازمات اللفظية وهي الكلمات المترابطة التي تضفي على الأمثال دلالات عميقة ودقيقة للمعنى اللغوي مثل ( غيض من فيض) أو(شارد الذهن) (يسري كالنار في الهشيم) وهكذا، اقترحت عليها أن تقرأ معها بعض الفقرات التي اعتقدت حنين أنها هامة وكتبتها حنين في مفكرة اعتادت على تدوين بعض لمحاتها اليومية داخلها، فأقترحت يقين على حنين بما أنها لا تصبر علي قراءة الكتب أن تمدها بهذه اللمحات الثقافية التي تجمعها حنين وأن يتشاركا من حين لآخر قراءة بعض الكتب، فيمضيا وقتهما بطريقة نافعة، فأمدتها حنين بمقتطفات من كتاب الثعالبي أعجبتها في باب (الكليات) بتشديد الياء وهو كل ما يطلق عليه كل مثل:

كلُّ ما عَلاك فأظلَّك فهو سماء

كلُّ أرض مُسْتَوِيَةٍ فهي صَعيد

كلُّ حاجِزِ بَينَ الشَيْئينِ فَهو مَوْبِق

كل بِناءَ مُرَبَّع فهوَ كَعْبَة

كلُّ بِنَاءٍ عال فهوَ صَرْحٌ

كلُ شيءٍ دَبَّ على وَجْهِ الأرْضِ فهو دَابَّةٌ

كلُّ ما غَابَ عن العُيونِ وكانَ مُحصَّلا في القُلوبِ فهو غَيْب

كلُّ ما يُستعارُ من قَدُومٍ أو شَفْرَةٍ أو قِدْرٍ أو قَصْعَةٍ فهو مَاعُون

كلُّ شيءٍ منْ مَتَاعِ الدُّنْيا فهو عَرَض

كلُّ أمْرٍ لا يكون مُوَافِقاً للحقِّ فهو فاحِشة

كلُّ شيءٍ تَصيرُ عاقِبتُهُ إلى الهلاكِ فهو تَهْلُكة

كلُّ ما هَيَجتَ بهِ النارَ إذا أوقَدْتَها فهو حَصَب

كلُّ نازِلةٍ شَديدةٍ بالإِنسانِ فهي قارِعَة

كلُّ ما كانَ على ساقٍ من نَباتِ الأرْضِ فهو شَجَرٌ

كلُّ شيءٍ من النَّخلِ سِوَى العَجْوَةِ فهو اللَينُ واحدتُه لِينَة

كلُّ بُسْتانٍ عليه حائطٌ فهو حَديقة والجمع حَدَائق

كلُ ما يَصِيدُ من السِّبَاعِ والطَّيرِ فهو جَارِح ، والجمعُ جَوَارِحُ.

 

يقين أعجبتها هذه اللمحات التي اختارتها حنين لهاوساعدتها في تنمية ثقافتها وأخذت تكررها كثيرا حتي حفظتها تقريبا بدون قراءة مطولة قد تمل منها، كما أرسلت لها حنين الكتاب بصيغة صوتية لتستمع إليه خلال ممارستها لهوايتها المفضلة في الأعمال اليدوية.