رئيس التحرير
علاء الجمل

فى رجب كانت الهجرة الأولى ( 1-3 )

شَقَّت الدعوة الإسلامية مسيرتها الصعبة بين كفارِ مكة وأحذ الأذى يلاحق كل من أسلم، ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سنتين من الجهر بالدعوة أن الكفار ماضون فى عنفهم وعنتهم وصدهم عن سبيل الله.

ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة حيثُ الموطن الآمن، ووجود ملك لا يُظلم عنده أحدٌ، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لو خرجتم إلى الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم عندهُ أحدٌ، وهى أرضُ صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه ).

وبعد أمرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة بأيام شرع المسلمون المضطهدون فى الهجرة إلى الحبشة فى رجب فى العام الخامس من البعثة، فخرج للهجرة فى الرحلة الأولى ( أحَدَ عشرَ رجُلًا وأربَعُ نسوة ) ثم بدأ موج الهجرة يتدفق على الحبشة.

وكان أول المهاجرين ( عثمانُ بنُ عفان وزوجُهُ رُقية بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سَلَمَة بن عبدالأسد وزوجه أمُّ سَلَمَة، وجعفر بن أبى طالب ).

تقولُ أمُّ سلمة: ( لما نزلنا أرض الحبشة جاوَرْنَا النجاشىّ خير جار، وأمِنَّا، على ديننا كما وعدنا الله، لا نؤذى ولا نسمعُ شيئًا نكرههُ، وأقمنا فى خير دار مع خير جار ).

وبعد ثلاثة أشهر من الإقامة فى الحبشة عاد المهاجرون الأولون من الحبشة لأنهم:

  1. سمعوا بإسلام عمر وحمزة وأن الوضع قد تغير بعض الشئ، وجاهر المسلمون بإسلامهم أمام كفار مكة حين خرجوا فى صفين على مقدمة أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر.
  2. وهناك سبب آخر كان أقوى فى دافع العودة هذا السبب هو الثورة التى شبَّت بأرض الحبشة ضد النجاشىّ ( أصحَمَة رضى الله عنه ).

تلك الثورة التى كان من أسبابها احتضان النجاشىّ للمسلمين، وعطفه على دينهم الجديد، ولما عاد هؤلاء المهاجرون ( لأن البعض ظل بالحبشة ولم يرجع ) وجدوا أن الوضع لم يتغير، وأن قريشًا أعنَفُ مما كانت، وزاد الأمرُ عُسرًا أن هؤلاء العائدين لم يستطيعوا دخول مكة إلا فى جوارٍ أو حلفٍ أو الدخولِ خُفية إلى مكة، ومن أمثلة ذلك أن عثمان بن مظعون دخل فى جوارِ الوليد بن المُغيرة، ودخل أبو سلمة فى جوارِ أبى طالب وكان خالَه ( فأُمُّ أبى سلمة هى بَرَّة بنت عبدالمطلب ).

درسٌ وعبرة من جوار عثمان بن مظعون:    روى ابن اسحاق بسنده فقال:

(( لما رأى عثمانُ بنُ مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء وهو يغدو ويروح فى أمانٍ من الوليد بن المُغيرة قال: والله إنَّ غُدُوِّى ورواحى آمنًا فى جوار رجل مشرك وأصحابى وأهلُ دينى يَلْقون من الأسى والأذى والبلاء فى الله ما لا يُصيبنى لنقصٌ كبير فى نفسى، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: (  يا أبا عبدِ شمس وَفَتْ ذِمَّتُك، قد رردت عليك جوارك، فقال: ولم يابن أخى؟ لعله آذاك أحدٌ من قومى ! قال: لا ولكنى أرضى بجوار الله ولا أريدُ أن استجير بغيره. قال الوليد: فانطلق إلى المسجد فاردد علىَّ جوارى علانيةً كما أجرتك علانيةً فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان بن مظعون قد جاء لكى يرد علىَّ جوارى. قال عثمان: صدق قد وجدتُه وفيًّا كريم الجوار، ولكنِّى أحببتُ ألا استجير بغير الله ثم انصرف عثمان بن مظعون )).

وما حدث من عثمان بن مظعون نُهديهِ إلى هؤلاء الذين تركوا غزة وما يحدث فيها من قتلٍ وتدميرٍ وتشريد ثم راحوا ينظمون حفلاتهم ومؤتمراتهم متناسين ما أمر الله به ﴿ إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) ﴾ "من سورة الأنبياء"، وما حدث لعثمان بعد ردِّ جوار الوليد ما فيه وخزٌ لضمائر ماتت.

حدث أن كان لَبيدُ بنُ ربيعَةَ الشاعر فى مجلس من قريشٍ يُنشدهم شعره فجلس معهم عثمان فقال لبيدُ ( ألا كل شئ ما خلا اللهَ باطلُ ) قال عثمان: صدقت، ثم تابع لبيدُ إنشادَهُ فقال: وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ، فقال له عثمان: كذبت! نعيمُ الجنة لا يزول فقال لبيد: يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم من قبل فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيهُ فى سفهاءَ معه قد فارقوا ديننا !! فلا تحزن فرد عثمان عليه بحدَّةٍ حتى عَظُمَ أمرُهُما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فَخَضَّرَهَا أى أتلفها، وكان الوليد بن المغيرة قريبًا منه يرى ما فعل الرجل بعمثان فقال له: أما والله يابن أخى، لقد كانت عينُك غنيَّةً عما أصابها حين كنتَ فى جوارى فى ذمَّةٍ منيعة. فرد عثمان بثقة المؤمن قائلًا: والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلىّ مثل ما أصاب أختها فى الله وإنى لفى جوار مَنْ هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبدِ شمس.

هذا مثلٌ من أمثلة مهاجرى الحبشة الأُوَل رضى الله عنهم أجمعين، وأمام هذا العَنَت والبلاء لم يجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بُدًّا من أن يأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى.

وإلى لقاءٍ آخَرَ قريب.