رئيس التحرير
علاء الجمل

عبدالفتاح عبدالرازق يكتب:

حروف القرآن وحدوده

مريضٌ ذهب إلى الطبيب فشخص الطبيب مرضه وكتب له روشتة الدواء، فظل هذا المريض يقرأ الروشتة  مرةً ومرةً ومرات حتى حفظها، ولم يذهب بها إلى الصيدلية للإتيان بالدواء الذى كتبه الطبيب، والذى بتناوله يكون العلاج.

فهل يزول عن هذا المريض داؤه وإن قرأ الروشتة ألف مرة ؟

بالطبع لا وألف لا.

ولله المثل الأعلى، هذا هو حال غالبية الأمة – الآن – مع القرآن الكريم.

فالقرآنُ نزل لكى يَرسُم للأمة منهج حياة أخلاقًا وعباداتٍ ومعاملاتٍ، وطلب منهم مُنزِل القرآن – سبحانه وتعالى – الذى خلقهم أن يتدبروه ويعملوا به لأنه علاجٌ لكافة أدوائهم فقال:( ولقد يسَّرنا القرآنَ للذكر فهل من مدَّكِر )، وقال سبحانه: (واللذين يُمَسِّكونَ بالكِتابِ وأقاموا الصلاة إنَّا لا نُضيعُ أجر المصلحين )، وقال لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ولأمته من بعده: ( فاستمسك باللذى أُوحِىَ إليه).

فماذا فعلت الأمة – أو أكثرها – بتلك الأوامر القرآنية ؟ 

لقد أتى عليها حينٌ من الدهر انشغلت فيه عن هذا الكتاب العظيم بحلاوة صوت قارئيه عن معانيه الكامنة فى ألفاظه الشريفة.

وهنا موطن الخلل فى التعامل مع القرآن، فالقرآن لم يتنزل للتبرك به بكثرة تلاوته فقط وإنما تنزل ليكون منهج حياة لكل مسلم خُلُقًا وعباداتٍ ومُعاملات، وهذا ما نفهم بعضه من قول أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – حينما سُئِلَت عن خُلُقِهِ – صلى الله عليه وسلم – قالت: ( كان خُلُقُه القرآن ) أى كانت أخلاقُهُ تطبيقًا عمليًا لما جاء فى القرآن الكريم.

ومن الدعاء المأثور (اللهم اجعلنا ممن يُقيمُ حروف القرآن وحدوده، ولا تجعلنا ممن يُقيمُ حروفَهُ ويُضَيِّعُ حدودَهُ).

ولمَّا غاب عنَّا هذا الوعى بآيات القرآن الكريم كان طبيعيًّا أن نرى من يقرأ آيات الصدق فى القرآن وهو كَذُوب، ومن يقرأُ آيات الأمانة وهو خَؤون، ومن يقرأُ آياتِ تحريمِ الرِّبا وهو يتعامل به، وهكذا.

نأتى الآن إلى السؤال الأساس:

ما عَلاقَةُ كلِّ ما سَبَق بما تعيشه الأمة – الآن – من مأساةٍ تحدث ليل نهار على أرض فلسطين المباركة، وعلى أرض غزة الأبية على وجهٍ أخص ؟

العلاقة واضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار، فالأمة التى تقرأ فى كتابها ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناسِ عداوةً للذين آمنوا اليَهُودَ واللذين أشركوا )، وتقرأُ ( يا أيُّها الذينَ آمنوا لا تَتَّخِذُوا عدوّى وَعَدُوَّكُم أولياء تُلقُوُنَ إليهم بالمَوَدَّةِ وقد كَفَرُوا بما جاءَكُم من الحق )، وتقرأ ( ومن يَتَوَلَّهُم منكم فإنه منهم ).

ومع ذلك نجد من الأمة مَن يُهَروِلُ للتطبيعِ مع هذا الكِيان الخبيث غافلا عمَّا جاءَ من تحذيرات القرآن فى هذا الشأن.

واجب الأمة إذن أن تكونَ على وعىٍ تام بما جاءَ فى سورَةِ الأنبياء من قوله تعالى: ( إنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحدة وأنا رَبُّكُم فاعبدون )، وكذلك قوُلُهُ - صلى الله عليه وسلم ( مَثَلُ المؤمنينَ فى توادِّهِم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ الواحد إذا اشتَكَىَ مِنهُ عضو تداعى لَهُ سَائِرُ الأعضاءِ بالسَهَرِ والحُمَّى ).

أين هذه الوَحدَة الآن ؟ وجُزءٌ غالٍ من أجزاءِ أُمَّتِنَا يُوشِكُ على الزوال من الخريطة على مرأى ومسمع من العالم كله، أين هذه الوَحدَة التى تدفع المسلمين إلى التآزر والتعاون لصد هذا العدوان عن أهل فلسطين ؟

وكأنَّ القرآن الكريم تنبأ بما سيحدث فى زماننا من ضياعٍ لهذه الوَحدَة، فقال اللهُ عَقِيبَ آيةِ سورةِ الأنبياء الثانية والتسعين ( وتَقَطَّعُوا أمرَهُم بَينَهُم كلٌّ إلينا راجعون )، وهنا تحول الأسلوب من الخطاب إلى الغَيبة وهو ما يسميه علماء البلاغة الالتفات، كأنَّ الكلامَ عن قومٍ غائبين ضيعوا وَحدَتَهُم بالخلافِ والتشرذُم.

فاللهم شَرِّفنا بالوَحدَة حتى نكون أهلًا لخطابِكَ ونصرك، واجعلنا ممن يُقِيمُ حدودَ القرآنِ وحروفه.